التوحيد القرآني والمنظومة القانونية
Ali Hade
3 أسابيع مضت
الفعاليات العلمية, مقالات
21 زيارة

أ.م.د لمياء مهدي
ان الاعتقاد بالتوحيد الربوبي الذي يحصر الحاكمية بالله وفي ظل النظرة القرآنية للإنسان يقتضي تأسيسا للدولة والحكومة يميزه عن سائر المدارس الوضعية ، وان هذه الدولة التي تتولى ادارة شؤون المجتمع وتنظيم حقوق الافراد وحرياتهم وضمان الامن والاستقرار في الحياة الاجتماعية بحاجة الى منظومة قانونية تتصف بالإحاطة العلمية التامة بعالم الخلق ومتطلبات الانسان ، تأبى الوقوع تخت تأثير اي عامل داخلي او خارجي ، مستوعبة للمصالح والمفاسد الواقعية هذه المنظومات هي الاخرى وفي ظل التوحيد محصورة بالله ، لتكون السياسة والحاكمية في خاتمة المطاف جزء من الهداية العامة والشاملة التي تكفل بها القرآن ، والغاية منها السمو والتكامل
يعد التوحيد حجر الزاوية في دعوة الانبياء والرسل كافة والهدف الغائي والمشترك لهم جميعا ، وهو قطب الرحى لجميع المعارف الدينية والاحكام الالهية، واليه تنتهي مختلف المناهج الدينية والاخلاقية والاجتماعية والسياسية وبخلافه سوف لن تكون دينية او سماوية .
فالتوحيد ليس مجرد رؤية او فكرة تسعى الى تنظيم المعتقدات وإصلاح الأفكار الذهنية فحسب ، بل يباشر تنظيم السلوك والعمل …. وان الأنبياء ورسل الدعوة الى وحدانية الله وقبل ان يتصدوا إلى مظاهر الشرك ، كانوا يسعون الى تطبيق هذا الهدف على الساحة العملية وتوحيد السلوكيات على أساس التوحيد وإنحصار الولاية بالله دون سواه ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ…﴾
وعلى هذا الاساس كانت الدعوات التوحيدية في جميع العصور ، ما ان تضع اقدامها ، وتعلن عن نفسها وحضورها في الساحة الاجتماعية ، حتى توضح موقفها من الجهات الحاكمة والفئات المستكبرة ، وبذلك فأنها تواجه نوعين متضادين من المواقف ، وردود الافعال تتمثل بتيارين اجتماعين متعارضين ، يتجسد الموقف الاول بالأعراض والانكار والحرب من قبل المستكبرين ، في حين يتجسد الموقف الاخر بالحماية والانتماء والايمان من قبل المستضعفين ، وان هذين النوعين من التعاطي انما يشيران في واقع الامر الى خاصية التوحيد الصادق والاصيل بمعنى انه في جميع العصور وحتى في المستقبل ، كلما تم عرض التوحيد بمفهومه الاصيل وشكله الصحيح ، فانه سيواجه هذين الاصطفافين والموقفين المتضادين تلقائيا .
ويفهم مما تقدم ان الأثر الذي يمكن أن يلعبه التوحيد على صعيد تبيين النظام السياسي الاسلامي يفوق تأثيره في المعارف العلمية في الاسلام بحيث يتعذر فهم حقيقة النظام السياسي للقرآن دون الوقوف على حقيقة التوحيد؛ الامر الذي يفسر تركيز القرآن الكريم على التوحيد العبادي والافعالي والربوبي مقارنه بالتوحيد الذاتي والصفاتي, ان عقيدة التوحيد التي حصرت الحاكمية في الله تقتضي ان يكون الاختصاص التشريعي مقتصرا على الله بفضل ربوبيته المحيطة بكل شيء ، الى جانب كون المصالح والمفاسد الواقعية هي التي تشكل ملاكات الاحكام والقوانين المشرعة, وان من الاركان الاساسية للحكومة والنظام السياسي التي تبحث في الفلسفة السياسية بشكل واسع هو النظام القانوني ، لا سيما وان النظام القانوني لإسلامي يتسم ببعض السمات التي تميزه عن الانظمة القانونية الاخرى, فلنظام القانوني الاسلامي يستند على عقيده التوحيد في اطار ضمان سعادة الانسان في الدنيا والاخرة ، فهو منسجم مع مبادى الاسلام واصوله العقائدية والاخلاقية والعبادية والسياسية ، لتأتي منسجمة مع فطرة الانسان وطبيعته الوجودية ﴿فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ…﴾ ,ينبغي ان توجه القوانين والانظمة الحقوقية باتجاه تنظيم العلاقات لاجتماعية وضمان حماية الحقوق المشروعة لجميع الافراد وتفعيل طاقاتهم وقابلياتهم الانسانية والبلوغ بها نحو الكمال ، وهذا الامر يستلزم ان يكون المقنن محيطا بالإنسان عالما بحاجاته واستعداداته وطموحاته ، ومن الواضح ان هذه الصفات لا تتوفر الا في خالق الانسان والكون ، ومن هنا فأن القوانين والتشريعات في العقيدة الاسلامية يجب ان تقوم على وحي السماء ، ولا يحق لأي انسان التصدي للتشريع والتقنين.
ولابد هنا من الاجابة عن سؤال بهذا الخصوص وهو : هل حق التشريع في الاسلام منحصر بالوحي الالهي وليس هناك تفويض في هذا الشأن حتى للمعصومين (ع) ؟
والجواب انه على الرغم من وجود روايات في باب تفويض النبي الاكرم ويتبعه الأئمة المعصومين (ع) امر التقنين فأن المراد بهذا التفويض ليس إنشاء القانون ومن دون اي سند سماوي ، هذا بالإضافة الى تصريح القرآن الكريم بان ما يقوله النبي (ص) ناشئ عن الوحي ، وقائم عن الارادة التشريعية لله تعالى اذا يقول ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾واما فيما يتعلق بالأئمة المعصومين (ع) فيمكن القول ان الدين الكامل والشامل يتم بيانه وتفسيره من قبلهم وتطبيقه على يدهم ، ولكن ليس لهم دور في تأسيسه وتشريعه من رأس ومن دون سند من وحي السماء, وجدير بالذكر انه “يمكن للناس فيما يتعلق بالمباحات ومنطقة الفراغ والجزيئات لتي لم ير الشارع ضرورة لوضع القوانين بإزائها ان يضعوا قرارات وضوابط بشرط ان لا تكون مخالفة للأحكام الالهية” والذي نخلص اليه ان جوهر التوحيد الذي يعد محور الشريعة الاسلامية يستلزم وجود منظومة قانونية تحصر عملية التشريع في الله من جهة ومن جهة اخرى ينبغي ان تكون هذه المنظومة منسجمة مع المنظومة الاخلاقية والعقائدية التي تعتبر الانسان هو الوسيلة والغاية خلافا للمدارس الوضعية
Related