الطبيعة القانونية لمبدأ الاحتياطات المستطاعة في القانون الدولي الانساني
Ali Hade
نوفمبر 28, 2021
مجلات
135 زيارة
أ.د أحمد عبيس الفتلاوي
إن قيام العمليات العدائية أثناء نشوب النزاعات المسلحة ، سواء كانت تلك النزاعات دولية ام غيردولية ، قد يصاحبها بلا شك الكثير من الانتهاكات تجاه السكان المدنيين او الاعيان المدنية ، فكان لابد من وجود ضوابط تحكم سلوك المقاتلين، وتضع قيودا أوتحظر طرائق ووسائل قتالية معينة ، ضمن احكام القانون الدولي الانساني .لقد حفل السجل البشري بالنزاعات المسلحة ،حتى اصبحت تلك النزاعات سمة تطبع العلاقات البشرية ، وارتكبت افضع الجرائم بحق المدنيين الابرياء ، إذْ كانت تلك الحروب تقوم على اساس الفتك والانتقام والتشفي من الخصم ، دونما تمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين، ودونما رادع من ضمير او اخلاق او التزام بقانون، وكلما توسعت طرائق ووسائل القتال كلما زادت الانتهاكات بحق المدنيين العزل من دون استثناء للمدن الاهلة بالسكان المدنيين ،اواستثناء اعيانا مدنية او غيرها ولا يوجد ما يكبح جماح الخصم الذي لايتورع عن قصف اي شي يدخل في حساباته، لذلك وجد ما يدعى بالاحتياطات المستطاعة أثناء العمليات العدائية ، لكي تخفف من ويلات القتال تجاه المدنيين ، وتجنبهم آثاره المدمرة، سواءكانت القريبة منها او البعيدة المدى.ولنا ان نسال هنا ماهو مفهوم تلك الاحتياطات ؟وهل مفهومها واضح وجلي ام يحتاج الى تأمل وبرهان؟وماهي طبيعة تلك الاحتياطات،هل هي ذات طبيعة واحدة ومتفق عليها ام هي ذات طبائع متعددة ومختلف عليها؟والمقصود هنا بالاحتياطات التي من ضمن مبدأ التمييز هي الاحتياطات كمفهوم وليس كمصداق؛ لان المصاديق غير منحصرة، بل لا يمكن حصرها بسبب تجدد طرائق ووسائل القتال، والاحتياطات كمفهوم ان لم نقل بانها مبدأ كباقي مبادئ القانون الدولي الانساني فحتماً نستطيع ان نقول انها ضمن مبدأ التمييز، ومن ناحية ثانية الاحتياطات لها صلة قوية بمبدأ التناسب؛ لان وجود التناسب هو من اجل عمل التوازن بين الاعتبارات الانسانية والاعتبارات العسكرية.ان اتخاذ احتياطات متناسبة مع الموقف سوف يجنب المدنيين والاعيان المدنية خطر الهجمات العدائية، فالتوقع المسبق لهجوم ما بانه سوف يتسبب بأضرار عرضية مفرطة الضرر وآلام لا مبرر لها في الارواح والاعيان المدنية قد لا يتناسب مع الميزة العسكرية المباشرة المأمول الحصول عليها من ذلك الهجوم يعد خرقاً لمبدأ التناسب ومن ثم يشّكل جريمة حرب، فعنصري التوقع المسبق والاضرار العرضية هما عنصران مشتركان في مسألتي التناسب والاحتياطات في الهجوم، وعليه لابد للقائد العسكري ان يتخذ الاحتياطات المستطاعة كافة من اجل تجنب اصابة الاهداف المدنية وعمل عملية توازن وتناسب بين الاعتبارات الانسانية و بين الحصول على ميزة عسكرية ملموسة ومباشرة.وعوداً على بدء نقول هنا، هل الاحتياطات المستطاعة قواعد قانونية اي ذات طبيعة قانونية ام لا؟ فان قيل انها ليست ذات طبيعة قانونية وذلك بسبب انها خاضعة لتقديرات شخصية من قبل القادة ولا يوجد سلطة عليا تقوم بوضعها او قضاء يقوم بتطبيقها، ولابد ان يكون هناك جزاءاً لمنتهكها، قلنا انه ليس التشريع دائما هو المصدر الوحيد للقواعد القانونية فالى جانب التشريع يوجد العرف، واغلب المبادئ القانونية مثل مبدأ التمييز ومبدأ التناسب الذين لهما صلة قوية بالاحتياطات المستطاعة، قد نشأ كلاهما نشأة عرفية فكذلك الاحتياطات المستطاعة التي هي من ضمن مبدأ التمييز الذي هو مبدأ عرفي النشأة لا يمكن ان يقوم بصورة كاملة في النزاعات المسلحة من دون القيام بتلك الاحتياطات واحترامها؛ لان مبدأ التمييز يتطلب ضمناً احترام تلك الاحتياطات وسواء كان النزاع دولياً ام غير دولي.
ان المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة وفي قضية كوبريسكيتش، قد وجدت ان اتخاذ الاحتياطات في الهجوم هو مطلب عرفي؛ لانه انما ينص على قاعدة عامة كانت موجودة سابقاً ويجسدها واذا ثبتت الطبيعة العرفية للاحتياطات المستطاعة، ثبتت قواعد قانونية ملزمة وليس فقط قواعد اخلاقية او مجاملات دولية ليست الزامية؛ لان العرف مصدراً رئيسياً من مصادر القانون الدولي الانساني، فليست الاتفاقيات وحدها هي المصدر الوحيد بل يوجد الى جانبها العرف و ان العرف قد يكون اصدق تعبيراً بسبب الممارسة والقبول والاعتقاد بالالزام .واما القول بأنه لابد من وجود قضاء يقوم بتطبيق القاعدة القانونية، او جزاءً يفرض على منتهكها، فالجواب ان هذين الشرطين لا يدخلان في تكوين القاعدة القانونية لان القاعدة القانونية انما توجد في مرتبة سابقة من تطبيقها، كما ان وجود الجزاء او عدمه لايؤثر في تكون القاعدة القانونية لان القاعدة شيء والجزاء شيء اخر.إنّ تقنين الاحتياطات المستطاعة الآن بشكل واضح وصريح في المادة (57/2) من البروتوكول الاضافي الاول، كما وتضمنت العديد من الكتيبات العسكرية واجب العمل بها. وذكرت كذلك في عدة بروتوكولات ملحقة باتفاقيات دولية.كل ذلك التقنين دعم هذا الواجب وعزز الالتزام به وجعل منه قواعد امرة، وان هذا التقنين في حقيقة الامر انما هو كاشف لقاعدة الاحتياطات وليس منشأ لها؛ لأننا قلنا فيما سبق من الطبيعة العرفية لقاعدتي التمييز والتناسب وصلة الربط القوية بينهما وبين الاحتياطات مما جعلها عرفية مثلهما واغلب قواعد القانون الدولي الانساني هي عرفية النشأة ثم قننت، وجعل التقنين من هذه القواعد قواعد قانونية آمرة تترتب المسؤولية القانونية على الدولة او الافراد اذا انتهكوا تلك الاحتياطات او القواعد بصورة عامة، ولايقول قائل بأن هناك من الدول من لم تصادق على تلك الاتفاقيات والبروتوكولات، فأن ذلك لا يمنع الدول من واجب الالتزام بها لما عُرِف من طبيعتها العرفية،والعرف ينطبق على جميع الدول من دون استثناء؛ لان العرف ليس له اثر نسبي كالمعاهدات او الاتفاقيات بل هو يخاطب جميع الدول.
وعليه فقد اتضحت الطبيعة القانونية للاحتياطات المستطاعة، سواء قلنا ذات طبيعة عرفية ام اتفاقية فهي كقاعدة قانونية تستفيد من جميع المزايا التي تمنح من قبل العرف الدولي والاتفاقيات الدولية.

Related